مستخدم:Bodalal
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
القيمـة … فلسفيـاً
ثمة نظرة سادت في الفكر الفلسفي منذ أفلاطون وحتى يومنا هذا ، تقوم هذه النظرة على تفسير الواقع – فلسفياً – على أساس " المثل " ، كما وتقيّم هذا الواقع على أساس " القيم " ، ومع أن مصطلح " القيمة " مصطلح حديث لم يظهر إلا في القرن التاسع عشر في فلسفة كنت ونيتشة بشكل خاص ، إلا أننا نجد جذور هذا المصطلح في فلسفة أفلاطون من خلال تمييزه بين عالم المثل وعالم الواقع ، حين أعتبر أفلاطون – في تشبيه الكهف – أن مثال الخير " تو ألاثون إيدوس " هو الذي يهبنا القدرة على المعرفة ، ورمز له بالشمس . ونتيجة للخلط بين معنى الخير المعرفي ( أي المثال الذي يكشف عن ذاته ويهب غيره القدرة على التكشّف فيُعرف ) ومعنى الخير الأخلاقي ( = القيمة ) في مصطلح ال" ألاثون " ، نشأ مفهوم " القيمة " نتيجة لهذا الخلط إذن، وأصبحت هذه القيمة أو " القيم في ذاتها " بالنسبة للإنسان بمثابة " ما ينبغي أن يكون " ، فيتقوّم سلوكه بناءاً على هذه القيم ، تماماً كما كانت ال" ألاثون " بمثابة المثال الذي يهب الأشياء القابلية لأن تعرف.. فحلّت القيمة هنا محل مثال الخير .
" لنعد إلى البداية " ، لقد ظهرت " الفلسفة " PHILOSOPHIA في الحضارة اليونانية بوصفها " حب " أو " ميل " PHILO إلى المعرفة الصحيحة ، وعلى الرغم من أن الميل والحب هي مفاهيم تتعلق " بالشعور" ، إلاّ أن البحث الفلسفي أخذ طابع السؤال عن الأشياء ( الموجود) دون أن يكترث بطبيعة ذلك الشعور ، بل لقد خرج الاهتمام بهذا الشعور عن نطاق الفلسفة ، وأصبح ما يعرف الآن بعلم النفس ؛ فتحول الهم الفلسفي إلى : كيف نعرف ؟ بدلاً من أن يكون : لماذا نعرف ؟ لماذا نحب المعرفة ونميل إليها ؟ فكيف إذن تم ذلك التحول من الاهتمام بـ " الحب " أو " الميل " إلى الاهتمام " بالحكمة " ؟!!
الغريب أن هذا التحول في "صيغة " فهم الفلسفة التي بدأت في اليونان ، قد انتقلت إلى الحضارة العربية الإسلامية ، ومنها عادت إلى الفكر الغربي مرة أخرى ، دون أن يطرأ أي تغيير على صيغتها الأولى التي ظهرت بها ، أعني التساؤل عن الوجود لا عن الميل أو ال philo ، وقد نتج عن هذه الصيغة ( السؤال ) فصل السائل ( الإنسان ) عن موضوع السؤال ( الوجود ) ، ولتأكيد هذا " الفصل " أو " التمييز " ، عرف الإنسان نفسه على أنه حيوان ناطق( ANIMAL RATIONALE L: ) ، وأعتبر النطق سمة فريدة ومميزة للإنسانية عن بقية الموجودات ، بل وعن الوجود ذاته ، فأصبح الإنسان يسأل عن الوجود وكأنه خارج عنه لا بوصفه هو ذاته موجوداً تتحقق فيه صفة الوجود . كما أصبح التمييز على أساس النطق نموذجا لأشكال أخرى من التمييز ، منها ما هو على أساس الأخلاق ومنها ما هو على أساس الاجتماع وغيرها من " صفات " الإنسان … فأصبح التمايز أو الثنائية بالنسبة للإنسان وكأنها حقيقة ثابتة ، وليست بحاجة إلى تبرير ، فعلى الرغم من أن كل الكائنات الحية لها " صفة " أو " خاصية " التجمع ، إلا أن التجمع البشري أعتبر صفة مميزة للإنسانية عن بقية الموجودات لأنه تجمع قائم على كذا وكذا … و هذا " الكذا …" ليس من وضع طرف محايد لا علاقة له بالكائنات الحية ( فنخرج حينئذ من الفلسفة ) ، بل هو من وضع الإنسان نفسه ، أحد هذه الكائنات ، فكأننا أمام " عنصرية " النوع البشري ضد الوجود !!
لقد قامت العلوم منذ نشأتها على أساس التمييز بين " الإنسان " وكل ما هو " ليس بإنسان " ، غير أن العلوم – بكل فروعها – ليست كالفلسفة ، فهي تعترف منذ البداية بأن أهدافها عملية ، تسعى لتحقيق الرفاهية والمنفعة للإنسان عن طريق استغلال كل ما هو ليس إنساناً … في حين أن الأمر ليس كذلك مع الفلسفة ، ذلك أن القناعة السائدة في الفلسفة هي أن العلوم إنما تقتطع جزءاً من الوجود ( موجود ما ) وتدرسه ، في حين أن موضوع الفلسفة هو " الوجود ككل " .
محمد هلال الخالدي
المراجع : 1 – هيدجر ، مارتن : نداء الحقيقة ، ت. عبدالغفار مكاوي ، دار الثقافة للطباعة والنشر ، القاهرة 1977